لن يكون من المستغرب اليوم، القول بأنه من الطبيعي أن تحدث الكوارث والأزمات، والقاسم المشترك بين الكوارث التي تقع خلال السنوات الأخيرة، مثل: وقوع هجوم إرهابي، أو تفشي وباء، أو ثورة بركان، أو وقوع زلزال مدمر، غير أنها أشكال مختلفة من الكوارث، التي ينتج عنها عدد كبير من المخاطر والتداعيات، وصور من الدمار، وقدر من الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية، إنها جميعًا تشترك في سمة واحدة، وهي أن كل واحدة منها عبارة عن غزو ضد النظام الاجتماعي، أو بمثابة تهديد مباشر ووجودي للمجتمع ومكوناته.
ويحدد النظام الاجتماعي، الذي تم اختراعه من أجل ضبط حياة البشر، ودعم رفاهيتهم وأمنهم، كيف يمكن للمجتمع أن ينجو من مثل هذه الكوارث، وما تخلفه من اضطرابات، سواء كانت هذه الكوارث طبيعية، أو من صنع البشر، أو مزيج من الاثنين، وبعبارة أخرى، تحدد مرونة المجتمع وأفراده وجماعاته ونظمه، ما إذا كانت الأزمات المترتبة على وقوع كارثة، ستكون قصيرة أم طويلة العمر في أعقاب الكارثة، ولذلك أصبحت كلمة المرونة Resilience في السنوات الأخيرة، ذائعة ومتداولة عبر العديد من الخطابات الأكاديمية والسياسية والإعلامية، إضافة إلى الأهمية التي تحظى بها داخل العديد من المجالات الأخرى، مثل: الاقتصاد، والصناعة، والتخطيط ووضع السياسات، والحوكمة.
وهناك عديد من الأسباب التي تفسر سبب هذا الذيوع والانتشار لمفهوم المرونة، خاصة مع بداية القرن الحادي والعشرين، منها؛ إن العالم شهد الكثير من الكوارث والأحداث المتطرفة، والتي خلقت صورًا من الأزمات والمخاطر، داخل العديد من المجتمعات، وأثّرت سلبًا على البنى التحتية الاجتماعية، وزعزعت عددًا من الاقتصادات الوطنية والعالمية – يمكن في هذا السياق الإشارة إلى جنوح سفينة "إيفر جيفن" في قناة السويس، وما سببه ذلك من توقف الملاحة لأيام قليلة، وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي – يضاف لذلك اقتران الاتجاه المتزايد للكوارث مع مخاطر التغير المناخي وتهديدات البيئة، وبالرغم من أن المخاطر المناخية والبيئية، تعتبر من الكوارث البطيئة وطويلة الأجل، فإنها تعمل على تغيير المشهد الطبيعي للأرض بشكل تدريجي، ومن المتوقع أنها سوف تؤدي إلى تداعيات واسعة وعميقة، وسوف يكون لها تكاليف وتداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية غير مسبوقة.
هذا الوضع العالمي، جعل الكثيرين يحذون حذو "أولريش بيك"(1) Ulrich Beck حتى يلفتوا انتباه الباحثين والخبراء والسياسيين إلى أننا نعيش في ظل مجتمع المخاطر العالمي، وأن الكوارث والمخاطر هي إحدى سمات عالمنا الرأسمالي المعاصر، وأنه في سياق كهذا يجب على الأفراد والحكومات والشركات والدول، أن يكونوا قادرين على التعايش مع المخاطر ومواجهتها والتكيف معها، عبر مختلف جوانب الحياة، ومع نمو هذا التيار الفكري، ظهر وشاع مفهوم المرونة، كمصطلح مغرٍ وجذاب في عالم المخاطر الذي نعيشه.
وخلال العقد الماضي، تم تنظيم العديد من المؤتمرات والندوات الدولية، بهدف مناقشة مفهوم المرونة، وصياغة الاستراتيجيات والسياسات التي تعتبر فعالة من الناحية العملية ومفيدة اجتماعيًا لبناء القدرة على المرونة والتأهب لمواجهة الكوارث، وتناولت هذه الحوارات العلمية المرونة كمفهوم يجب فهمه جيدًا، من أجل إنتاج مجموعة من الظروف التي تعمل على تحسين قدراتنا كأفراد وجماعات ومجتمعات على تحمل الاضطرابات، خاصة على نطاق واسع، بناء على ذلك، تأتي هذه الورقة لطرح مفهوم المرونة على طاولة البحث والدرس، بهدف الكشف عن المقصود بالمرونة، ومكوناتها ومستوياتها بشكل عام، وكيفية تأسيسها وطرق تعزيزها في المجتمع.
العيش مع الكوارث ومخاطرها
لو رجعنا بذاكرتنا للوراء قليلًا، إلى بداية ظهور وتفشي وباء كوفيد_19، وكم الخوف والذعر الذي أصاب معظمنا، بل أصاب العالم كله، وقارنا هذه الحالة بوضعنا الآن، تبين لنا أن الوباء مازال موجودًا، ويصيب الآلاف كل يوم، إلا أننا نبدو أقل خوفًا وقلقًا، الفارق بين الحالين، هو التعايش مع الوباء ومخاطره، وكأن أهم سمة في عالمنا المعاصر، هي ضرورة تعلم العيش مع الكوارث ومخاطرها.
ولذلك أصبح من المهم رصد الكوارث ودراستها، وفهم استجابات الأفراد لها، حيث إن فهم ممارسات الأفراد واستجاباتهم للكوارث والمخاطر، التي يمكن أن يعايشوها، يسهم في تنمية مستويات المرونة لديهم ولدى المجتمع ككل، في الأحداث المحتملة في المستقبل، وعندما نتحدث عن الكوارث، فإن أول ما يأتي في أذهاننا، هو أنها لحظة من الاضطراب والانقطاع، وتعرف الكارثة Disaster بأنها حدث غير متوقع ومفاجئ في كثير من الأحيان، ويتسبب في أضرار جسيمة، وصور من الدمار والخسائر، والمعاناة الإنسانية،وعلى وجه الخصوص، يمكن تعريف الكارثة باعتبارها حدثًا يحمل تهديدات خطيرة للبنى الرئيسة أو القيم والمعايير الأساسية للمجتمع وأنظمته المختلفة التي تتطلب في ظل ضغط الوقت والظروف غير المستقرة، اتخاذ قرارات، وبناء على ذلك يمكن تحديد الكارثة من خلال ثلاثة مكونات أساسية؛ التهديد، وعدم اليقين، والحاجة الملحة، وبالنسبة للتهديد، فإن طبيعة حياتنا المعاصرة، تتضمن العديد من عوامل التهديد، منها ما هو طبيعي، وما هو بشري، وكلاهما يمكن أن ينتج كوارث وأزمات متنوعة وفي أي لحظة، يضاف لذلك عدم اليقين، الذي أصبح سمة أساسية لمجتمعنا وأزماته، وبالرغم من حالة عدم اليقين التي يمكن أن تسود خلال أوقات الكوارث، فإن المجتمع وتنظيماته وأعضاءه، مطالبون جميعًا بالتعامل السريع مع الكارثة وتداعياتها، فالوقت خلال الكارثة، يمثل دورًا مهمًا، لأنه يعتبر مساحة معينة، يتم خلالها اتخاذ وتنفيذ الإجراءات التي من شأنها مواجهة الكارثة وتأثيراتها بشكل فعال.
ويمكن من خلال مراجعة تراث دراسة الكوارث، تحديد مجموعة متنوعة من السمات العامة للكارثة، وذلك على النحو التالي:
•الكارثة فجائية.
•تؤدي الكارثة إلى تعطيل الروتين اليومي للأفراد والجماعات بشكل كبير.
•تؤدي إلى تبني مسارات عمل غير مخطط لها أو استثنائية، للتكيف مع الاضطرابات.
•ليس للكارثة تاريخ حياة محدد أو متوقع بالنسبة للمكان أو الزمان.
•تشكل خطرًا على الفاعلين الاجتماعيين، وعلى الأشياء الاجتماعية ذات القيمة.
وفي لحظة الكارثة، كل ما نحتاجه هو إمكانية العودة بالحياة لوضعها الطبيعي، أو على نحو أفضل منه، إلى حالة نعرفها ومألوفة بالنسبة لنا، ويتطلب هذا العمل المعرفي والاجتماعي، قدرًا من الثقة في بعضنا البعض، وفي مؤسساتنا الحكومية، والتماسك الاجتماعي والإيثار، مع الوضع في الاعتبار، أن الكارثة يمكن أن تخلق بعض السلوكيات غير المرغوبة، وقد تحدث النزاعات بشكل ما، والتي يمكن توجيهها بشكل عقلاني وإيجابي.
وتتخذ الكوارث أشكالًا عديدة، ويمكن تصنيفها بطرق مختلفة، ويعتمد التمييز الرئيس في التصنيف التالي على السبب الذي يقف وراء وقوع الكارثة، وعلى هذا الأساس، نميز بين نمطين عامين للكوارث: الكوارث الطبيعية، والكوارث البشرية.
وتتضمن الكوارث الطبيعية عددًا كبيرًا من المجموعات، نذكر منها؛ الكوارث المناخية (مثل: الأعاصير)، والكوارث الهيدرولوجية (مثل: الفيضانات)، والكوارث الفيزيائية الفلكية (مثل: النيازك)، والكوارث البيولوجية (مثل: الأوبئة والآفات)، أما الكوارث البشرية، فتتضمن الكوارث التكنولوجية (مثل: الكوارث الناجمة عن الإخفاقات الهندسية وكوارث النقل، والكوارث البيئية؛ مثل: حوادث الطرق، والحرائق الكبيرة، والتلوث، والحوادث النووية)، والكوارث الاجتماعية (مثل: الأعمال الإجرامية، والعنف المسلح والإرهاب، والحروب) (3).
وبخلاف ذلك التصنيف، يمكن التمييز بين الكوارث سريعة الظهور، وبطيئة الظهور، ويتم تعريف الأولى من خلال الصدمات الفورية التي تحدثها، مثل: الفيضانات والزلازل والأعاصير، في حين أن الكوارث البطيئة، هي التي تستمر لعدة أيام أو شهور أو سنوات حتى تظهر تأثيراتها، مثل: الجفاف، والتصحر، وتغير المناخ، وارتفاع مستوى مياه سطح البحر، وتآكل التربة.
وحقيقة، بالرغم من تعقيد كل ما يرتبط بالكوارث، فإنها لا تمثل حدثًا ماديًا فحسب، بل تمثل أيضًا حدثًا اجتماعيًا، حيث كل أنواع الكوارث تخلق تأثيرات اجتماعية متشابكة مع الحدث، ويرتبط ذلك بكيفية استعداد الأفراد لعنف الطبيعة، أو للمخاطر التي تنتج عن أفعالهم وأنشطتهم، ومن المهم في هذا السياق، الإشارة إلى أن معظم البحوث والسياسات في مجال الأخطار والتأهب للكوارث، أكدت – حتى وقت قريب – على نموذج "الحد من الخسائر"، ومع ذلك فإن التحول إلى نموذج أكثر شمولًا لمرونة المجتمع، يتضمن أفكارًا تستند إلى الاستدامة في حل المشكلات ومواجهة المخاطر المترتبة على الكوارث، وبعبارة أخرى، بدلًا من مجرد منع الخسائر أو التقليل منها، يفترض نموذج المرونة فكرة العوامل التي تعزز قدرات المجتمعات على العيش مع المخاطر ومواجهتها، والتعاطي مع تداعياتها بفاعلية، والتعافي منها في أسرع وقت ممكن(4).
ما المقصود بالمرونة؟
تعمل المرونة كفلسفة ومنهجية بديلة، وأكثر فائدة للتعامل مع الكوارث والمخاطر المختلفة، وتحليل النظم التكيفية المعقدة، وتحليل المخاطر النظامية، والتي يصعب تحليلها من خلال منهجيات تحليل المخاطر التقليدية، وتتضمن المرونة الاستعداد الجيد للاضطرابات، والتعامل معها، والتكيف مع الظروف الجديدة التي تخلقها الكوارث، والتعافي منها في أسرع وقت.
وبشكل عام، تم استخدام المرونة كمجاز يسعى إلى وصف كيف تواجه الأنظمة التهديدات المختلفة، وتحافظ على بنيتها، وعلى أداء دورها ووظيفتها أثناء الأزمة، ويذهب "وليم هانيز" William Hanes إلى أن المرونة هي: قدرة النظم على التعافي وسط الصدمات والضغوط بمرور الوقت، وأنها توفر وضوحًا أكبر بشأن هذه التهديدات، من خلال التركيز على البنية الأساسية للنظم وخصائصها، والعلاقات التي تربط النظم بعضها ببعض، بهدف الوصول إلى الحالة المثالية لسلامة النظام ككل واستمراريته(5).
ومفهوم المرونة في نشأته، مفهوم لا ينتمي إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبدلًا من ذلك؛ هو مفهوم مستعار من العلوم الطبيعية والفيزيائية، ويعني القدرة والسعة الاستيعابية، التي يمكن من خلالهما أن يقاوم المعدن الأضرار التي يمكن أن تلحق به، وأن يعود إلى حالته الأصلية(6)، وإن عملية استعارة هذا المفهوم وتطبيقه في العلوم الاجتماعية ليست بالمسألة البسيطة، نظرًا للخصائص متعددة الأبعاد، وتنوع الجوانب المتضمنة فيه، فمن المؤكد أن اشتراك العديد من التخصصات في مقاربة المرونة، يجعل من الصعب الحصول على تعريف مشترك، فعلى سبيل المثال: تحدث علماء النفس عن المرونة النفسية، وتحدث علماء الإيكولوجيا عن المرونة البيئية وغير ذلك، لذلك من المهم لأغراض التحليل في سياق هذه الورقة، العمل على تقديم مقاربة تعريفية لتوضيح ما المقصود بالمرونة.
بداية، تصور "أغيري" Aguirre المرونة كعملية متعددة الأبعاد ومستمرة، وتتضمن مجموعة من العوامل، بما في ذلك:(7)
الخبرات السابقة، والقدرة على الخيال والإبداع (وحتى الحظ) في التعامل مع المواقف المفاجئة.
القدرة على التعامل مع تأثيرات الكوارث والمخاطر وتداعياتها المختلفة.
القدرة على "الارتداد" والتعافي والاستمرار في أداء الأدوار والوظائف.
قدرة النظام على الاستيعاب والاستجابة والتعافي بشكل فعال وسريع.
بناء المرونة يتعلق ببناء القدرات وإنتاج القدرة على التكيف.
وبناء على هذه العوامل، عرف "أغيري" المرونة بأنها: قدرة الأنظمة المختلفة على الاستيعاب والاستجابة والتعافي بشكل فعال، من مجموعة المطالب غير العادية والمحفزة داخليًا وخارجيًا. وقدم "بلودينيك" Plodinec أول مراجعة منهجية للأدبيات حول المرونة، وأكد أهمية الدراسات المرتبطة بالمرونة في مجال الكوارث، وذلك بداية من ثمانينيات القرن الماضي، وارتبطت المرونة في هذه الدراسات بمفهوم القدرة على الاستيعاب والتعافي من حدث خطير، ومنذ ذلك الوقت، ظهرت تعريفات هجينة تجمع بين الإيكولوجي والسلوكي، والإيكولوجي والاجتماعي(8).
وتعتمد معظم التعريفات التي صيغت لمفهوم المرونة في هذه الأدبيات على الإمكانية/الاستطاعة، والقدرة الاستيعابية في مواجهة الكوارث، سواء كان المفهوم يرتبط بالفرد أو الجماعة أو المجتمع، ويعني هذا عمومًا، أن هناك اتفاقًا بين الباحثين على فكرة أن المرونة في مواجهة الكوارث، يجب أن ترتبط بقدرات وإمكانات الأفراد والجماعات والنظام أو المجتمع على التعامل مع الأزمات، ومواجهة آثارها، والتعافي السريع منها.
وإذا كانت المرونة ترتبط بالقدرة، فهذه القدرة يتم تعريفها بأنها: مزيج من جميع نقاط القوة والموارد المتاحة داخل المجتمع أو النظام، والتي يمكن أن تقلل من مستويات الخطر، والتخفيف من تأثيراته(9). وبحسب "استراتيجية الأمم المتحدة للحد من الكوارث" تعتبر المرونة: قدرة نظام أو مجتمع معرض للمخاطر على مقاومة واستيعاب آثارها في الوقت المناسب، وبالطريقة الفعالة(10). وتم تبني هذا التعريف في "إطار عمل هيوغو 2005-2015، الذي يعتبر جهدًا منظمًا لتعزيز المرونة ومستوياتها في مواجهة الكوارث في جميع أنحاء العالم(11).
ويرتبط مفهوم المرونة في سياق هذا التحليل، بما نطلق عليه "المجتمعات المرنة" Resilient Communities، وهي التي تطور مستوى عاليًا من القدرة على تحمل وقوع الكوارث والأزمات، ومواجهة آثارها والتعافي منها، وتشترك المجتمعات المرنة أيضًا في أهمية وفاعلية نظم الدعم الاجتماعي، وفاعلية دور روابط الجيرة، وشبكات العلاقات الرسمية وغير الرسمية، وقوة روابط التماسك الاجتماعي، وفاعلية المجتمع المدني، وتنامي مستويات المسؤولية الفردية والمجتمعية.
وتصف مرونة المجتمع Community resilience، القدرة الجماعية للمجتمع أو للحي أو لمنطقة محددة جغرافيًا للتعامل مع الضغوطات واستئناف إيقاعات الحياة اليومية بكفاءة، من خلال التعاون بعد الصدمات الناتجة عن الكوارث، وتعتمد العديد من المجالات الأكاديمية، بما في ذلك؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، والنظم الاجتماعية والبيولوجية، وأبحاث الكوارث، على مفهوم مرونة الجماعة أو المجتمع، خاصة مع تزايد خسائر الكوارث، لقد اعتمد خبراء إدارة الكوارث أشكالًا مختلفة من المرونة كوسيلة لمعالجة الخسائر والتعافي من الآثار.
وتتبنى الدراسات الحديثة وجهة النظر التي مفادها أن مرونة المجتمع يجب أن تتجاوز استراتيجيات البقاء على قيد الحياة، أو التكيف على المدى القصير، وضرورة السعي إلى التكيف والتحول المستدامين، خاصة في أعقاب الكوارث، ولذلك تربط مرونة المجتمع بين القدرات التكيفية لمرحلة ما قبل الكارثة، والمسار الإيجابي للعمل والتكيف بعد حدوث الاضطراب.
وترتبط مرونة المجتمع أيضًا بالأفراد، وخصائصهم الاجتماعية والديموغرافية، على سبيل المثال: الدخل والتعليم والعمر والجنس والخلفية العرقية، كلها متغيرات وعوامل حاسمة في مستوى مرونة المجتمع، فالدراسات تشير إلى أن الأفراد الأكثر تعليمًا، والذين يمتلكون مستوى اقتصاديًا ومعيشيًا جيدًا، أكثر استجابة للإجراءات المرنة والوقائية عن غيرهم، كما أن معرفة الأفراد بالكوارث والتعرض المباشر أو غير المباشر لها، يزيد من مستويات استعدادهم وقدراتهم على المرونة والـتأهب لمواجهة الكوارث وتداعياتها.
وبالإضافة لذلك، تم تحديد رأس المال الاجتماعي Social Capital، كمصدر رئيس لمرونة المجتمع، فبدون أعضاء المجتمع النشطين الذين يقودون إجراءات التعافي والانتعاش، غالبًا ما تنحرف السياسات الحكومية لمواجهة الكوارث، ويتضمن رأس المال الاجتماعي، مستويات الثقة الاجتماعية، والمشاركة في العمل التطوعي، وعضوية المنظمات والمؤسسات الأهلية وغير الربحية، وأخيرًا الشبكات الاجتماعية، التي تعتبر من المؤشرات المهمة لرأس المال الاجتماعي(13).
وتوفر شبكات رأس المال الاجتماعي الفردية والمجتمعية الوصول إلى الموارد المختلفة في أوقات الكوارث، بما في ذلك المعلومات والمساعدات والموارد المالية إلى جانب الدعم العاطفي والنفسي، وبالرغم من الأدلة حول فعاليتها، فإن أبحاث المرونة وممارسات إدارة الكوارث لم تتبنَ بالكامل رأس المال الاجتماعي كمكون حاسم، ربما بسبب عدم اتفاق العلماء على مقاييس لرأس المال الاجتماعي مقارنة بالعوامل الاقتصادية أو الديموغرافية الأخرى، فإن الممارسين لم يستغلوا التماسك الاجتماعي والشبكات الاجتماعية في التخطيط للكوارث وإدارتها(14)، يمكن على خلفية ذلك تأمل وتفسير ما حدث من بعض شباب محافظة سوهاج، أثناء حادثة تصادم القطارين، وهو تسارعهم نحو التبرع بالدم، وتقديم المساعدات الممكنة في إنقاذ المصابين، من خلال التعاون مع المؤسسات الحكومية في موقع الحادث.
المرونة والتأهب للكوارث
تعد الكوارث والأخطار في جميع أنحاء العالم مشكلة رئيسة ومتنامية، ففي الوقت الذي يواجه فيه الإنسان تزايد الإرهاب والعنف المسلح والكوارث التكنولوجية، التي ينتج عنها تهديدات واضحة والعديد من الأحداث المؤلمة، هناك أيضًا، المناطق الأكثر عرضة للمخاطر الطبيعية، في الواقع ذكر "نوريس" Norris في أوائل التسعينيات، أن ما يقرب من سبع سكان العالم معرضون لخطر أو كارثة طبيعية، ومع ذلك، فقد زاد هذا العدد منذ ذلك الوقت، وأصبح هناك ما يقرب من مليار شخص (أي ما يساوي سدس سكان العالم) معرضين لحالات من الفيضانات السيئة، وبحلول عام 2050، تتوقع الأمم المتحدة أن يتضاعف هذا العدد إلى ملياري شخص(15).
لقد أصبح من الطبيعي أن تقع الكوارث، وأن نعيش حياتنا اليومية في مواجهة المخاطر، ولكن ما هو غير طبيعي، ألا نكون كأفراد وجماعات ومجتمعات، في حالة من التأهب والاستعداد للعيش مع الكوارث ومخاطرها، ومواجهتها والتعافي منها في أقصر وقت ممكن، وبفاعلية كبيرة، ولذلك يعتبر التأهب للكوارث على المستويات المختلفة من المكونات المهمة للمرونة، ومرحلة من المراحل الأساسية لمواجهة الكوارث وإدارتها، ويشير التأهب إلى القدرات والمعارف التي قامت بتنميتها الحكومات، أو منظمات الاستجابة الفنية، أو المجتمعات المحلية والأفراد، الذين يمكنهم توقع أحداث أو ظروف الأخطار المحتملة، أو الوشيكة أو الحالية، والاستجابة لها بصورة فعالة(16).
ويتم القيام بإجراءات التأهب، في سياق إدارة الكوارث، وينبغي أن تستند إلى تحليل سليم لمخاطر الكارثة، وأن تكون مرتبطة بصورة جيدة بنظم الإنذار المبكر، وهي تشمل التخطيط للطوارئ، ويرتبط كل هذا بمرونة المجتمع والنظام وقدرتهما على أداء أربع وظائف أساسية، فيما يتعلق بمواجهة الكوارث،
تتعلق هذه الوظائف بمستوى مرونة المجتمع، وبالقدرة على إدارة الكارثة من خلال التأهب الذي يقوم على التخطيط والإعداد والتكيف، وبالأداء المتميز في ظل الكارثة وتأثيراتها (القدرة على الاستيعاب والتعافي) (17)، ومن المهم الإشارة إلى أن أنشطة التأهب والاستجابة الفعالة تسهم في إنقاذ الأرواح، وتقليل الإصابات، والحد من الخسائر والأضرار، التي تنجم عن الكارثة، والتقليل من كمية وكثافة الاضطرابات المحتملة، كما أن البحث في مجال التأهب والاستجابة، قد قدم الكثير حول كيفية التخطيط للكوارث والاستجابة لها بشكل فعال.
بناء مرونة المجتمع
إذا كانت المرونة هي القدرة على توقع المخاطر والحد من تأثيراتها، والتعافي منها بسرعة، والقدرة على التكيف والتطور والنمو في مواجهة التغييرات المضطربة، وأنها على درجة من الأهمية في بقاء المجتمعات واستمراريتها، في ظل تزايد وقوع واحتمال وقوع الكوارث والمخاطر، يصبح من المهم العمل على تأسيس مستويات عالية من المرونة وتعزيزها باستمرار على المستويات المختلفة.
وفي هذا السياق، وضع "بلومنفيلد" Blumenfield و"أورسانو" Ursano مقترحًا حول كيفية بناء قدرة المجتمع على المرونة في مواجهة الكوارث(18)، وتضمن هذا المقترح أربعة عناصر أساسية هي:
خلق الوعي العام بأن المرونة على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمع ككل.
تعزيز تنمية المجتمع على أساس المدخلات والمشاركة المجتمعية الموسعة.
ويرتبط بناء المرونة بقوة المجتمع وموارده، ويتضمن ذلك العديد من المؤشرات، مثل المؤشرات المؤسسية، والاقتصادية، والاجتماعية وغير ذلك، ويرتبط ذلك أيضًا بأنظمة الحد من المخاطر والجاهزية والاستجابة والتعافي، وكل ذلك لا يهمل التأكيد على أهمية التشاركية والاستدامة في كل الجهود والأنشطة، لأن ذلك يحقق مستوى عاليًا لتعزيز المجتمع المعرض للخطر، ويرتبط ذلك بما يطلق عليه "المجتمع الكفء أو المؤهل" competent community، وهو المجتمع الذي يتميز فيما يتصل بالكوارث والمخاطر، بالفعالية التلقائية، والتعامل المباشر مع المخاطر ومواجهتها، والمستويات العالية من الانتماء، والميزات الثلاث لها أهميتها ودورها في إشراك أفراد المجتمع في ممارسات وأنشطة الوقاية والتأهب في حالة الأزمات والكوارث.
وتؤدي "القابلية للتأثر" دورًا مهمًا في بناء مرونة المجتمع وتعزيزها، وهذا المصطلح يستخدم على نطاق واسع لشرح العلاقة بين البشر وبيئاتهم، ومن المعروف أن الضعف الاقتصادي، الذي يشير إلى عدم قدرة الأفراد على تلبية الاحتياجات الأساسية، يرتبط بانخفاض قدرة الأفراد على مواجهة المخاطر وتأثيرات الكوارث، مما يقلل من درجات مرونة الأفراد، وبالتالي يضعف من مرونة المجتمع، ومن ناحية أخرى، يرتبط ذلك بالضعف الاجتماعي، الذي يشير إلى قدرة الجماعة أو الأفراد على التكيف مع المخاطر أو التغييرات المفاجئة، التي تؤثر على معيشتهم.
ولذلك، تتطلب المرونة التعامل مع كل أوجه الضعف السابقة، بالإضافة إلى فهم المكونات الثقافية وأدوات إنتاج المعنى داخل المجتمع بمعناه الكبير، وداخل الجماعات المحلية، ولابد هنا من فهم الاختلافات في المعتقدات والمعايير، والتركيز على أهمية المعتقدات الدينية، وكل المكونات الثقافية التي يمكن الاستفادة منها خلال وقت الأزمة، في تحريك وتعبئة الأفراد. وهناك العديد من الدراسات التي تؤكد أن المكونات الثقافية والقيم والمعايير والمعتقدات الدينية وغير ذلك، لها دور قوي في التأثير وتوجيه إمكانية التأهب والتأقلم والتعامل مع المخاطر أو التأثيرات التي تخلفها الكوارث، وأخيرًا، من المهم الإشارة إلى أهمية العوامل المؤسسية والحكومية، والسمات العامة للنظام السياسي، في عملية بناء المرونة.