عمليـة الانتقـال السيـاسـي في ليبيـــــا ودور القـــوى الخارجيـــة
الخميس. 06 مايو., 2021
إن الاختلال الأمني والتفكك السياسي اللذين شهدتهما ليبيا، وقعا بفعل تدخل مباشر من تحالف دولي، قاده حلف ناتو «الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا»، بتفويض من الأمم المتحدة عام 2011!!، عبر حملة قصف جوي مكثفة، استهدفت مفاصل القوات المسلحة الليبية، وذلك بخلاف دور كل من قطر وسودان «البشير»؛ حيث قاما بتزويد الجماعات المتطرفة بالأسلحة، في الوقت الذي قدّمت فيه الإمارات بعض الدعم للزنتان، ومن الطبيعي أن تثير مثل هذه التدخلات عوامل المنافسة، والصراع على النفوذ، لتصبح المشكلة دولية وإقليمية، هددت بتكرار النموذج السوري نفسه، خاصة وأن آلافًا من عناصر المرتزقة والجماعات المسلحة الذين كانوا يعملون هناك تم نقلهم إلى ليبيا، للعمل لحساب القوى الخارجية نفسها «تركيا، وروسيا»، ونشير هنا إلى أن ملفات أنشطة المرتزقة الأجانب في ليبيا تديرها شركتا الأمن التركية «صادات»، والروسية «فاجنر»، وهما المسؤولتان عن الملفات على الساحة السورية، وكلتاهما تعتمدان بصفة رئيسة على توظيف المرتزقة، خاصة السوريين.
لقد كانت «عملية طرابلس» مسؤولة عن تصعيد مظاهر التدخل الدولي في ليبيا، لأنها لم تقترن بجهد سياسي وإعلامي مناسب، يوضح سعيها للقضاء على التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة التى تهدد أمن العاصمة، والمنطقة الغربية، ما أظهرها في النهاية بصورة عدوان يستهدف حكومة معترفًا بها دوليًّا بمقتضى اتفاق الصخيرات، ومن هنا انقسمت القوى الدولية والإقليمية إلى جناح مؤيد للعملية، وآخر معادٍ لها، وبدأ التورط العسكري الخارجي، الذي كان أبرزه التركي والروسي، وبدرجة أقل قطر والإمارات ومصر وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة.
أبعاد التدخل التركي
لم يكن التدخل التركي في ليبيا وليد تطور الأزمة الليبية، بقدر ما كان نتاج تخطيط استراتيجي بعيد المدى؛ فقد وضع وزير الخارجية الأسبق «أحمد داود أوغلو» أسس التوجُّه التركي نحو إفريقيا، وتم إعلان عام 2005 «عام القارة الإفريقية»؛ وقام بعد ذلك «أردوغان» بأكثر من أربعين زيارةً لستٍ وعشرين دولةً، وتم فتح العديد من السفارات والوكالات التركية فيها، ووقَّعت تركيا اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع 46 بلدًا إفريقيًّا، إضافةً إلى اتفاقية تحفيز وحماية الاستثمارات بشكلٍ متبادل مع 28 دولةً، واتفاقية تجنُّب الازدواج الضريبي مع 12 دولةً، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة والعواصم الإفريقية نهاية عام 2019 أكثر من 20 مليار دولار، بعد أن كان 3 مليارات دولار عام 2003، و100 مليون دولار فقط عام 2000، وتجدر الإشارة إلى أن التغلغل في دول المغرب العربي كان على رأس الأهداف التركية، خاصة بعد أحداث «الخريف العربي»، حيث بلغت الصادرات التركية إلى دول المنطقة عام 2018 نحو 6.570 مليارات دولار، مقارنةً بـ4.857 مليارات عام 2010، ومن أجل تحقيق ذلك وظّفت تركيا الأنظمة الحاكمة التي تشارك فيها أحزاب إسلامية.
إن تركيا لا تتعامل بعشوائية على الساحة الليبية، وإنما وفق مخطط استراتيجي متكامل؛ فقد طوَّر حزب «العدالة والتنمية» الحاكم عقيدة «العثمانية الجديدة» منذ تبوئه السلطة، وذلك في محاولة للدمج بين قيم الجمهورية الأتاتوركية والتاريخ الإمبراطوري العثماني -حيث احتلت الدولة العثمانية ليبيا قرابةَ 360 عامًا، ثم تنازلت عنها لإيطاليا مقابل بعض الجزر عام 1912- وقد اقتحمت تركيا قطاع المقاولات فى ليبيا منذ عام 1974، حتى بلغ حجم مشروعاتها نحو 19 مليار دولار، لكنها تراجعت بعد أحداث «الخريف العربي»، وعادت حاليًّا تحاول الاستحواذ على نصيب الأسد من الاستثمارات في مجال إعادة الإعمار والبنية التحتية، بطموحٍ يصل إلى 120 مليار دولار!!، وبخلاف ما سبق، فقد ظلَّت أنقرة ولمدة عشرين عامًا تستورد 95% من حاجاتها النفطية من ليبيا، وسعت لأن تلعب دور الموزّعِ الرئيس لإنتاج ليبيا من النفط في أوروبا، كما قامت بعمليات تنقيب عن النفط منذ عام 2000، لكنها توقفت عام 2014، ومثّلت حالة الفوضى والصراع الداخلي في ليبيا فرصة لتبدأ تركيا في تنفيذ مخططها الخاص بإحياء الهيمنة العثمانية، وتوسيعِ النفوذ التركي في العالم العربي.
ومن ناحية أخرى، تسببت سيطرة الجيش الوطني على معظم المناطق الاستراتيجية غرب ليبيا، ومحاولته خنق ميليشيات العاصمة، في تمكين تركيا من الضغط وإبرام مذكرتي التفاهم حول ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والدفاعي مع «فائز السراج»، واللتان تتضمنان إنشاء قوة الاستجابة السريعة ضمن قيادة قوات حكومة الوفاق، ونقل الخبرات، والاستشارات، والتخطيط، والتدريب العسكري، وتقديم الدعم بالأسلحة والمعدات، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون العملياتي، للقوات البرية والبحرية والجوية، وتوفير تسهيلات لتركيا بقاعدتي مصراتة البحرية والوطية الجوية.
وقد حاولت تركيا توظيف التنظيمات التابعة للإخوان في تحقيق أهداف استراتيجيتها في ليبيا، وفي هذا الإطار، زار «أردوغان» تونس نهاية عام 2019، مصطحبًا وزيري الدفاع والخارجية، ومدير المخابرات، بهدف استخدام تونس كمعبر لنقل الجنود الأتراك إلى ليبيا، كما استقبلت أنقرة «راشد الغنوشي» رئيس حركة النهضة الإسلامية، ورئيس البرلمان، في يناير 2020 للغرض نفسه، وقد أتاح التدخل العسكري المباشر -بالخبراء، والتسليح، والمعلومات الاستخبارية، وتشكيلات المرتزقة- لتركيا المشاركة الفعلية في مجريات المواجهات الدائرة، باستخدام الطائرات المسيّرة، والقطع البحرية التركية في المتوسط، ناهيك عن استئناف التنقيب عن النفط في المنطقة الاقتصادية المفترضة بمقتضى الاتفاقيات الموقعة!!، فضلًا عن الاتفاق على تطوير مشروعات مشتركة للطاقة بمنطقة الهلال النفطي.
إن تدخل تركيا العسكري المباشر في ليبيا استهدف ظاهريًّا وقف هجوم الجيش على طرابلس، لأنها كانت تخشى من أن اقتحامه لها يعني طرد «الإسلاميين» المتشدّدين، على نحو ما جرى في بنغازي، وبالتالي تفقد السياسة التركية أهم أدواتها في ليبيا، كما تفقد فرصة بناء جيش موازٍ من الميليشيات غرب البلاد، وإنشاء قاعدة تدعم تيارات الإسلام السياسي في شمال إفريقيا بعد سقوط الإخوان في مصر، لكن الهدف الاستراتيجي كان توسيع نطاق نفوذها، والرد على تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط، الذي ترى أنه قد تجاهلها، وبالتالي لم يمنحها ما تراه حصة عادلة من الثروات الغازية بالمنطقة.
وقد تمكَّنت حكومة الوفاق من استعادة السيطرة على الشريط الساحلي بين طرابلس والحدود التونسية خلال أسابيع قليلة من المشاركة العسكرية التركية، ثم الاستيلاء على قاعدة «الوطية» الجوية، وبعدها مدينة «ترهونة» ذات الأهمية الجيواستراتيجية، والتي كانت تمثل مركزًا رئيسًا للقيادة والسيطرة للجيش الوطني الليبي، ومحصلة هذه التطورات المهمة، تتمثّل في أن الميزان العسكري الذي كان يميل بشكل واضح لصالح قوات المشير «خليفة حفتر» لعام كامل «أبريل 2019 - أبريل 2020» عاد إلى التوازن من جديد، وصار يغري القوات التركية بالتقدم نحو الهلال النفطي الغني بثروات النفط والغاز، لكن الخط الأحمر المصري «سرت- الجفرة» وضع حدًّا لكل تلك الأطماع، وعملية الانتقال السياسي التي تمت كنتيجة له فرضت التساؤلات المتعلقة بمصير الاتفاقات العسكرية والاقتصادية التي توصلت إليها حكومة الوفاق المنتهية ولايتها، مع تركيا، والتي أثارت في حينه اعتراضات من أطراف داخلية وخارجية، والحقيقة أن «عبد الحميد دبيبة» رجل الأعمال الذي ينتمي إلى مصراتة، يرتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا، لكن ذلك ليس هو العنصر الحاسم في الحكم على مستقبل تلك الاتفاقيات، لأن اتجاه تركيا نحو التفاهم مع الدول المؤثرة على مسار الأزمة يفرض عليها ضرورة إلغائها، وإن استخدمتها لفترة كأداة مساومة، رغم تجميد فعاليتها.
تأثير الدور الروسي
خسرت روسيا نفوذها السياسي والتسليحي في ليبيا؛ نتيجة لسقوط نظام «القذافي»، وحاولت تعويضه بإقامة علاقات متوازنة من حيث المظهر، بين النظامين المتعارضين في بنغازي وطرابلس؛ حيث قدمت دعمًا عسكريًّا غير معلن للمشير «خليفة حفتر»، واعترفت بالمشروعية السياسية والدولية لحكومة «السراج»، ويتمثّل الهدف الاستراتيجي لروسيا في ليبيا في إنشاء قواعد أو تسهيلات تدعم نفوذها البحري في المتوسط، والحصول على حصة من الاستثمارات في قطاع النفط والغاز، بما يعزز مكانتها في السوق العالمية للطاقة، واستثمار موقع ليبيا كبوابةٍ للتبادل التجاري مع الدول الإفريقية، وكموطئ قدم على بُعدِ دقائق فقط من قواعد الناتو جنوب أوروبا.
وقبل موعد انعقاد مؤتمر برلين بأيام قليلة، حاولت موسكو استباق الأحداث، ونسّقت مع تركيا، بهدف الإمساك بزمام المسار السياسي، وتوظيف حضورهما الميداني ودورهما العسكري على الساحة الليبية، لإبرام اتفاق «سوتشي ليبيا»، على غرار ما تم بينهما من توافقات في سوريا، واستضافت موسكو مباحثات غير مباشرة بين «فائز السراج» والمشير «خليفة حفتر»، في 13 يناير 2020، وطرحت على الطرفين صيغة مبدئية لاتفاق وقف القتال، وافق عليها «السراج» فورًا، نتيجة تنسيق مسبق مع تركيا، بينما رفض «حفتر» التوقيع وغادر موسكو، معلنًا فشل الوساطة، وضياع فرصة موسكو وأنقرة في الاستئثار بخيوط تسوية الأزمة.
وقد قام «عبد الحميد دبيبة»، رئيس الحكومة، بزيارة عمل لموسكو منتصف أبريل 2021، نوقشت خلالها رغبة روسيا في المشاركة في إعادة الإعمار، وإصلاح ما دمرته الحرب، وتعزيز أواصر الشراكات التجارية، واستئناف عمل اللجنة الحكومية الروسية-الليبية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني، فضلًا عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وتقديم الدعم العسكري بالأسلحة والتدريب والخبراء لليبيا، وربما كان ذلك يمثِّل أقصى طموح لروسيا خلال المرحلة الراهنة، نظرًا للتشدد الأمريكي الواضح تجاهها، وحرصها على الاستئثار بتسوية الأزمة الليبية.
المرتزقة الأجانب
أدى المجلس الأعلى للدولة، وحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا اليمين الدستورية، وتسلما سلطة إدارة البلاد رسميًّا، من مجلس «السراج» وحكومة الوفاق في طرابلس ونظيرتها المؤقتة ببنغازي، ويقع على عاتق هذه الحكومة الجديدة مهمة تحقيق نوع من التوازن قدر الإمكان في علاقاتها بالقوى الإقليمية والدولية، سواء الضالعة في الأزمة الليبية مباشرة، أو التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر عليها، وربما كان التلويح بنصيب من كعكة إعادة الإعمار يعد أفضل الأدوات للحد من التدخلات الدولية التي تسببت في معظم مظاهر عدم استقرار البلاد على مدار العقد الماضي، خاصة ما يتعلق بالقوات التركية والمرتزقة السوريين الموالين لها، والعناصر التابعة لشركة «فاجنر» الروسية، ومجموعة الجنجويد، والمجموعة التشادية، وغيرهم من المرتزقة الأجانب، حيث إن إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة يحد بصورة جذرية من التأثير الإقليمي والدولي على الأزمة، مما يفسر إعلان «عبد الحميد دبيبة» رئيس الحكومة أن حكومته لن تصرف أية مخصصات للمرتزقة الموجودين على الأراضي الليبية.
تخبط الدور الأمريكي
ظل الموقف الأمريكي من الأزمة الليبية يتذبذب بين مختلف الأطراف المتصارعة؛ فقد اقتصر في البداية على أنشطة مكافحة الإرهاب، ما برر دعم واشنطن ميليشيات مصراتة للتخلص من سيطرة «داعش» على سرت، ودفع تشكيلات من القوات الخاصة لتأمين مقرات البعثات الدبلوماسية وبعض مقار حكومة الوفاق في العاصمة طرابلس، ثم تم نقل هذه التشكيلات إلى مصراتة بعد تحرك الجيش في اتجاه العاصمة، لكنها عادت إليها بعد تراجعه، وبالتالي يتضح أن التوافق داخل القيادة الأمريكية كان محوره إقرار مبدأ الوجود في ليبيا، لكنها لم تكن متفقة على الجهة التي يمكن الاستناد إليها، وبالتالي دعمها، وقد تسبب عجز دول الاتحاد الأوروبي عن إيجاد حل للأزمة، وانحياز بعضها للميليشيات المسلحة، في دفْع واشنطن للانخراط بقوة في الجهود الخاصة بالتسوية السياسية.
ولم تبدأ عمليات الجيش الوطني الليبي التي استهدفت تصفية ميليشيات طرابلس في أبريل 2019، إلا بعد أن تلقّى المشير «حفتر» الضوء الأخضر الأمريكي خلال اتصال هاتفي مع «جون بولتون» مستشار الأمن القومي حينذاك، أعقبه اتصال مطوَّل من الرئيس السابق «دونالد ترامب» يؤكد الدعم الأمريكي للعملية، لكن ذلك الدعم كان مرهونًا بالحسم العسكري السريع، الذي لا يتيح المجال لفتح ملفات تتعلق بأمن السكان المدنيين في العاصمة، والممارسات المتعلقة بحقوق الإنسان، والضغوط الداخلية والخارجية على الإدارة الأمريكية. ونظرًا لأن الجمود العسكري قد استمر طويلًا، فقد تم فتح كل تلك الملفات وغيرها، ما أحدث تحولًا أساسيًّا في الموقف الأمريكي، على النحو الذي أصبح أكثر ميلًا لحكومة «السراج» وتركيا، خاصة في ظل التدخل الروسي الداعم لشرق ليبيا، وذلك رغم استمرار التحفظات الأمريكية على علاقة «السراج» بالميليشيات المسلحة التي انخرطت داخلها عناصر الجماعات الإرهابية والمتشددة، وقد كان سعي موسكو لتأسيس قاعدة لنفوذها شرق ليبيا يمثِّل المصدر الرئيس لقلق واشنطن، خاصة بعد أن اتُّهِمَت روسيا بدفع 14 طائرة من طرازي ميج 29 وسوخوي 24، معزَّزة ببطاريات صواريخ للدفاع الجوي، وسيارات مدرعة، لتغيير التوازن العسكري في ليبيا.
ويستند الموقف الغربي حاليًا إلى أن عودة الصراع بين طرفي الأزمة الليبية، يعني تعزيز الوجودين العسكريين الروسي والتركي، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة التي تستهدف إبعاد نفوذ موسكو عن ليبيا وشرق المتوسط، مما يفسر حالة التربص بركائز موسكو في البلاد، والقلق بشأن مستقبل الأمن والاستقرار في ليبيا، وتأثيره على المصالح الأمريكية، مما يبرر إعلان واشنطن منتصف فبراير 2021 تمديد حالة الطوارئ الوطنية فيما يتعلق بليبيا لمدة عام، وهي الحالة التي تم فرضها خلال أحداث فبراير 2011، ويتم تجديدها كل عام، وكذلك ما تضمنه تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان لعام 2020 من اتهامات لما أطلقوا عليه «ميليشيات حفتر» بالتورط في عمليات قتل تعسفي وغير مشروع، وإخفاء قسري وتعذيب، وتجنيد أطفال، واستخدامهم في الصراع، كما أشار التقرير إلى استيلائهم على «سرت»، وتعرُّض العديد من المدنيين للاختطاف والاحتجاز، بسبب ولائهم لحكومة طرابلس، فضلًا عما وصفوه بجرائم ميليشيا الكاني بمدينة ترهونة، الذين تم إدراجهم على قائمة العقوبات.
وتجدر الإشارة إلى أن بيان «جيك سوليفان» مستشار الأمن القومي الأمريكي، في 12 مارس 2021، المتعلق بـ«العمل على تعزيز المساءلة لأي طرف يسعى إلى تقويض خريطة الطريق الانتخابية التي وضعها الليبيون» يستهدف «حفتر» بصورة رئيسة؛ حيث يتهمه بعرقلة إجراء انتخابات ديسمبر 2018، وفقًا لاتفاق باريس، وانتخابات ربيع 2019، بحسب اتفاق باليرمو، وفي هذا الإطار، فإن انتقائية التقرير السنوي لحقوق الإنسان، وتجاهله الإشارة إلى إرهاب التنظيمات المسلحة في طرابلس وضواحيها، يعكسان استهداف إدارة «بايدن» لـ «حفتر» وقيادات الجيش الوطني خلال المرحلة المقبلة.
وقد أكدت «ستيفاني ويليامز»، المسؤولة السابقة في الخارجية الأمريكية، والتي عملت ممثلةً للأمم المتحدة في ليبيا، أنه «من الناحية الجيواستراتيجية تُعدُّ ليبيا مصلحة قومية حيوية للولايات المتحدة»، لذلك تُلقي واشنطن بثقلها خلف إجراء الانتخابات في موعدها، مع تهميش دور «حفتر»، دون استبعاده تمامًا، ولو بصورة مؤقتة، لقدرته على تقويض السلام في البلاد، من وجهة نظرها. وفي ضوء ذلك، من المرجَّح أن تسعى واشنطن لاستخدام كل أدوات الضغط الدبلوماسية والاقتصادية لطرد روسيا من ليبيا، وإبعادها عن الجناح الجنوبي لحلف الناتو، وذلك يعني أن الضغط قد يطول بعض حلفائها في المنطقة، وقد أشار «بايدن» إلى أنه سيكون أقل تسامحًا مع انخراط حلفاء الولايات المتحدة في صراعات تقوض أهداف واشنطن، وربما كان تجميد صفقة بيع طائرات «إف35» للإمارات قد جاء ردًّا على بعض التفاهمات التي تمت بين أبو ظبي وموسكو في ليبيا خلال السنوات السابقة.
موقف المجموعة الأوروبية
يتسم الصراع بين إيطاليا وفرنسا بالعمق التاريخي؛ فالاستراتيجية الإيطالية تعتبر ليبيا ضمن مجالها الحيوي، مما يفسر احتلالها لها عام 1911، لكن فرنسا زحفت من مستعمراتها في تشاد والنيجر إلى الجنوب الليبي «إقليم فزان» خلال الحرب العالمية الثانية، وحررته من إيطاليا، لتحتله بدلًا منها حتى عام 1953، وردت إيطاليا بالاتفاق مع إنجلترا والولايات المتحدة على إبعاد فرنسا من المنطقة، ضمن الصراع الجيوسياسي بين الفرانكفون والأنجلوفون، لمنعها من التمدد في شمال إفريقيا، وبالتالي فالصراع الرئيس في المنطقة صراع جيوسياسي بين الفرانكفون والأنجلوفون، ودور إيطاليا وتركيا لا يعدو كونهما مخلب قط لمواجهة التمدد الفرنسي.
وقد ظلّت فرنسا مؤيدة لحكومة طرابلس حتى أقنعتها مصر بدعم الجيش الوطني كبديل آمن للميليشيات المسلحة، مما يفسر توافق المواقف السياسية بينها وبين روسيا في مجلس الأمن بشأن الأزمة، وكذلك موقفها الداعم للشرق الليبي داخل الاتحاد الأوروبي، أما إيطاليا، فما تزال ترى في ليبيا منطقة نفوذ تقليدي ومجالًا حيويًّا لتمددها، وقد اختارت دعم الميليشيات، مستغلة نفوذ وعلاقات المستشار الإيطالي للبعثة الدولية فى ليبيا، مما يفسر وجود بعثة عسكرية إيطالية ومستشفى عسكري ميداني في مصراتة، ينصب اهتمامهم على عمليات مكافحة الهجرة غير الشرعية، ووقف تهريب اللاجئين من الشواطئ الليبية إليها، وتجدر الإشارة إلى أن إيطاليا تستورد من ليبيا 48% من حاجتها النفطية، وأكثر من 40% من الغاز، وقد أقرّ البرلمان الإيطالي خطة للتدخل العسكري في المياه الليبية بناء على طلب من رئيس حكومة الوفاق «فائز السراج»، في أغسطس 2017، تحت ذريعة كبح جماح المهاجرين عبر البحر المتوسط، لكن هذه الخطوة قوبلت بتهديدات صريحة من الجيش الليبي بإغراق أية سفينة إيطالية تقترب من الساحل الليبي، وكذلك بردود فعل غاضبة على المستوى الشعبي.
وقامت إيطاليا باستضافة مؤتمر باليرمو ردًّا على استضافة فرنسا مؤتمر باريس عام 2018، واتهمت الأخيرة بأنها تريد أن تكون اللاعب الوحيد في ليبيا، وبعد الإعلان عن توقيع تركيا اتفاقياتها مع «السراج» أواخر نوفمبر 2019، أبدت إيطاليا معارضة شديدة للتدخل التركي في الشؤون الليبية، لكن تركيا سرعان ما نجحت في احتواء ذلك الخلاف، وتوصلا إلى توافق على ضمان كل طرف مصالح الطرف الآخر في ليبيا.
وبعد إعلان الرئيس «عبد الفتاح السيسي» التوصل إلى مبادرة لحل الأزمة الليبية، وتأكيد وحدة الأراضي الليبية وسلامتها واستقلالها، واحترام الاتفاقات الدولية كافة، بالإضافة إلى إعلان وقف إطلاق النار، أوائل يونيو 2020، أعلنت إيطاليا تأييدها للمبادرة المصرية، في إطار جهود التوصل إلى حل سياسي، وقد امتد التغير في الموقف الإيطالي لتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، مما شكَّل ضربة قاصمة لأحلام تركيا التوسعية، لأن روما اعترفت بالسيادة اليونانية على الجزء اليوناني من المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهو ما قطع الطريق أمام الأطماع التركية في حقول النفط والغاز شرق المتوسط.
ومن ناحية أخرى، استقبل الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في قصر الإليزيه «محمد يونس المنفي» رئيس المجلس الرئاسي الليبي، في 23 مارس 2021، وهي أول زيارة خارجية لـ «المنفي» منذ توليه السلطة، كما زار وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا طرابلس مجتمعين، يوم 25 مارس 2021، في إطار مبادرة دعم أوروبية للانفراج السياسي الذي تشهده ليبيا مؤخرًا. وقد استهدفت هذه الزيارة تأكيد أن أوروبا موحدة بموقفها تجاه الوضع في ليبيا، المساند لحكومة الوحدة الوطنية، تنفيذًا لما تم اتخاذه من قرارات خلال اجتماع وزراء خارجية الناتو ببروكسل، في 23 مارس 2021، لبحث التحديات التي تمثلها روسيا في ليبيا. وقد زار رئيس وزراء إيطاليا ليبيا في أبريل، مؤكدًا اهتمامه بتكثيف التعاون بين البلدين في مجموعة من القطاعات، تشمل البنية التحتية، والطاقة، والصحة، ومكافحة تهريب البشر، ولحق به رئيس وزراء اليونان، مؤكدًا اهتمام أوروبا الكبير بالانفراج السياسي الذي تشهده البلاد بعد عقد من الفوضى، وأعلن إعادة فتح سفارة بلاده في طرابلس، وقنصليتها في بنغازي، طالبًا «إلغاء الاتفاقيات غير القانونية مع تركيا، وأبدى استعداد بلاده لتشكيل لجان مشتركة مع ليبيا وتركيا لاستئناف المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية، ووضع حدود نهائية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لكل دولة، وتلك إشارة بالغة الإيجابية، لأن هذا الإجراء كفيل بإنهاء التوترات بشرق المتوسط.
دور دول الجوار الليبي
امتنع كل من الجزائر وتونس والمغرب عن تأييد شرق ليبيا، وانحازت هذه الدول سياسيًّا لحكومة طرابلس الغرب، بحكم الامتداد الجغرافي والميول السياسية، ورحبت بالدور السياسي لتركيا، لكنها عارضته عندما تحول الأمر إلى تدخل عسكري، خشية ما يمكن أن يؤدي إليه من تحويل ليبيا إلى «سوريا جديدة»، مما قد يخلق لها مشكلاتٍ أمنية خطيرة. وقد كانت الجزائر الدولة الأكثر اهتمامًا بالشأن الليبي، وهي أكثر الدول المغاربية وضوحًا في رفضها الدور السياسي للمشير «خليفة حفتر»، الذي وصفت عملياته بالعدوان العسكري!!.. وتجدر الإشارة إلى أن تعزيز العلاقات مع دول الجوار كان من أهم نتائج عملية الانتقال السياسي في ليبيا؛ حيث عاودت الجزائر فتح معبر «الدبداب- غدامس» الحدودي المشترك مع ليبيا، لتستأنف عملية تصدير السلع مباشرة، وليس عن طريق تونس، على نحو ما كان سائدًا منذ مايو 2014، وإن كان استمرار ذلك الوضع يظل رهنًا باستقرار الأوضاع الأمنية في ليبيا، على النحو الذي لا يمثل فيه فتح الحدود مصدر تهديد بتسلل السلاح والإرهابيين إلى الجزائر.
وكان الرئيس التونسي أول رئيس يصل طرابلس بعد إتمام عملية الانتقال السياسي، لكن بلاده لم تتمكن من استثمار التطورات الأخيرة في الملف الليبي، بالرغم من أنها الأقرب جغرافيًّا واجتماعيًّا، بسبب الأزمة السياسية هناك، والمواجهة المحتدمة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، مما يفسر فقدان تونس مكانته التجارية في السوق الليبية، وخروجه من قائمة الدول الـ 10 الأهم لهذه السوق، في الوقت الذي صعدت فيه تركيا إلى المركز الثالث على صعيد الصادرات، ولم يعد هناك أكثر من عشرين ألف تونسي يعملون في ليبيا، وفي الوقت الذي يتراجع فيه حضور السلع التونسية في ليبيا، يزداد حضور السلع التركية هناك، حتى في مناطق لم تكن تابعة لحكومة طرابلس.
دلالات التمرد الأخير في تشاد
إن الجنوب الليبي الغني بالثروات، والبوابة الرئيسة لدول الصحراء الكبرى، يقع في مركز الصراع بين أمريكا وفرنسا وروسيا والصين، وقد أبلغ الرئيس «إدريس ديبي» الفرنسيين عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الليبي في أكتوبر 2020، قائلًا: «إن نهاية الحرب في ليبيا تعني بدايتها في تشاد»، ذلك أن الحرب الليبية كانت تشغل المتمردين عن الداخل التشادي، ونهايتها تعني رحيل كل المرتزقة، بمن فيهم فصائل المعارضة التشادية، التي تم توظيفها إبّان سنوات الحرب، كإحدى أدواتها. وقد انطلق المتمردون من قبيلة القرعان التي تنتمي لإثنية التبو، في 11 أبريل 2021، من قواعدهم جنوب ليبيا، باتجاه نجامينا للسيطرة على الحكم، وهاجموا إقليم «تيبستي» في مثلث حدود ليبيا والنيجر وتشاد، واشتبكوا مع قوات النظام في «كانم»، واغتالوا الرئيس التشادي «إدريس ديبي»، وأكدت المصادر الغربية أن هذه الجماعات تلقت تدريبها وتسليحها بمعرفة مدربين من «فاجنر» الروسية، ما يعني أن هجومهم على تشاد لا يمكن أن يكون دون تنسيق مع موسكو، فى إطار منافستها للنفوذ الفرنسي التقليدي في تشاد.
وفى أعقاب اغتيال «ديبي»، استقبل السفير الأمريكي في ليبيا «ريتشارد نورلاند» رئيس المؤتمر العام للتبو «عيسى عبد المجيد منصور» ليحذره من أن واشنطن لن تقبل بأي تهديد لوحدة التراب الليبي، لكن كل المعطيات تؤكد أن فشل المتمردين في السيطرة على الحكم في نجامينا، يعني عودتهم من جديد إلى جنوب ليبيا، والاستعداد لمحاولة أخرى. هذه المعطيات والمؤشرات تؤكد أن تشاد ومنطقة الساحل والصحراء مقبلة على أيام ساخنة، فروسيا بأطماعها في المنطقة لن ترضى بالتراجع، وفرنسا الممسكة بزمام الأمور منذ عقود، والمتحكمة في الدولة لن تسمح بدولة جديدة تزاحمها في النفوذ. والنتيجة، مزيد من النيران تخلخل الأمن والاستقرار في المنطقة.
أهمية الدور المصري
كانت زيارة السيد «أيمن بديع»، وكيل المخابرات العامة المصرية، على رأس وفد كبار المتخصصين من مختلف الجهات، يوم 27 ديسمبر 2020، الأولى من نوعها منذ منتصف عام 2014، واستهدفت الزيارة تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية المشتركة، واستئناف الرحلات الجوية بين العاصمتين، وإعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس، وقد تمت هذه الزيارة في وقت كانت فيه «الطبخة السياسية» في مراحلها الأخيرة، وقد حالت الزيارة دون إتمام عملية التسوية في ليبيا بمعزل عن القاهرة، ما كان كفيلًا بفقدان تأثيرها على مسار الأحداث، وتراجع مكانتها الإقليمية. وبالرغم من أن عملية الانتقال السياسي التي تمت في ليبيا ليست هى الوضع المثالي للتسوية التي تستهدفها مصر، فإن ملابسات الوضع الدولي، خاصة فيما يتعلق بوصول إدارة «بايدن» الديمقراطية إلى البيت الأبيض، وممارستها الضغوط من أجل إنهاء حالة الصراع في ليبيا، وكذلك الأولوية التي تحظى بها مشكلة سد النهضة، دفع مصر إلى التوافق مع عملية الانتقال السياسي الراهنة، أيًّا كانت درجة اقترابها أو ابتعادها عن طموحاتها.
إن مرونة مصر وتواؤمها مع التغيرات الأخيرة في ليبيا تحقق مصالحها الاستراتيجية، خاصة فيما يتعلق بتأمين المناخ المناسب لعودة العمالة المصرية، بعد أن انخفضت أعدادها بصورة حادة، وتعرضت لتهديدات أمنية خطيرة «الخطف، والتصفية الجسدية..»، ناهيك عن التراجع الشديد في تحويلاتهم النقدية إلى البلاد، وانخفاض الصادرات المصرية إلى السوق الليبية إلى الربع تقريبًا، نظرًا لأن 70% من سكان ليبيا يتركزون في المناطق الوسطى والغربية التي كانت خاضعة لحكومة طرابلس.
لقد كانت مصر تتعامل مع الأزمة الليبية باعتبارها طرفًا مهتمًّا، مثل كل الأطراف المعنية، ولم تكن لها استراتيجية معلنة يمكن من خلالها استشراف حدود أمنها القومي، التي لا يمكن أن تقبل اقتراب أي دولة منها أو المساس بها، هذا الغموض تم تلافيه بعد إجهاض عملية الجيش الوطني الليبي في طرابلس، وقتئذٍ أدركت كل الأطراف الدولية والإقليمية خطورة تجاهلها خط مصر الأحمر «سرت- الجفرة»، الذي تم إعلانه، فتراجعت على جانبيه تشكيلات الجيش الوطني وميليشيات «السراج»، مما جمَّد الموقف العسكري، وفتح المجال لتحرك آليات التفاوض، وخروج الحل السياسي.
هذا الموقف سبق أن تكرر، عندما تصاعدت وتيرة الخلافات القائمة حول المجال الجيوسياسي بين تركيا واليونان، قبل ترسيم الحدود بين الأخيرة ومصر؛ عندما أعلنت تركيا اعتزامها التنقيب في محيط النقطة رقم «8»؛ ظنًا منها أنها تدخل في حدود المنطقة الاقتصادية الحرة لليونان، إلا أنه بمجرد احتجاج مصر، باعتبارها ضمن حدود المنطقة المصرية تراجعت تركيا، واستبعدتها من المناطق التي ستشملها البحوث السيزمية وعمليات التنقيب.
الدور الروسي في ليبيا كان أيضًا على حساب الدور المصري، وهو ما أكدته التفاهمات الثنائية التركية-الروسية، التي لم تكن القاهرة جزءًا منها، ولو كانت هذه التفاهمات قد نجحت في التوصل إلى تسوية ثنائية لسببت ضررًا بالغًا بأمن مصر القومي، وبالتالي فإن الإفصاح عن حدود الأمن القومي للدولة يمنع التجاوز بحقها، ويجنبها أزمات مع أطراف خارجية قد تفتقد وضوح الرؤيا بشأنها، وقد أسهم حرْص تركيا على تجنب الصدام مع مصر، في لعب دور مهم في تعزيز فرص نجاح الاتصالات الأمنية والدبلوماسية، وذلك أمر مهم، نظرًا لأن الإدارة الأمريكية الجديدة أقل تعاطفًا مع السياسات التركية والمصرية، خاصة فيما يتعلق بالتسليح وحقوق الإنسان، وهذا مبرر كاف لتدفئة العلاقة بين الدولتين، ولو بصورة تكتيكية.
وتجدر الإشارة إلى أن زيارة القاهرة كانت أول مهمة عمل خارجية يقوم بها «عبد الحميد دبيبة» رئيس الحكومة الليبية الجديدة، في 18 فبراير 2021، أعقبتها زيارة رئيس المجلس الرئاسي «محمد المنفي»، وقد عكس استقبال الرئيس «السيسي» للضيفين مدى اهتمام مصر بإنجاح زيارتهما، مما سيكون له أكبر الأثر في إعادة رسم التحالفات، وإعادة تبديل المواقع بين الأطراف الدولية والإقليمية المتداخلة في الملف الليبي.