مفاوضات فيينا: الانعكاسات الإقليمية للصفقة النووية
الخميس. 03 يونيو., 2021
كلمة المركز: محادثات فيينا
لا يزال الغموض يشوب محادثات فيينا المُنعقدة بين إيران والقوى الدولية الموقِّعة على خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، منذ إبريل الماضي، لمحاولة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، فرغم تأكيدات المسؤولين أن الجولة الخامسة هي الحاسمة لتلك المفاوضات، فإنها انتهت دون التوصل إلى اتفاق، أو حل للقضايا العالقة.
وفي ضوء ذلك، من المُقرر عقد جولة سادسة من المفاوضات، في 10 يونيو 2021، ورغم تأكيد المسؤولين المطلعين على المحادثات أن هذه الجولة ستشهد مناقشة أصعب القرارات، فإنه من المرجَّح أن يتمخض عنها التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي، كما أنها ستحدد مستقبل العلاقات الأمريكية-الإيرانية.
ويأتي ذلك في ضوء مساعي القوى الدولية المشاركة في محادثات فيينا إلى بلورة اتفاق نهائي قبيل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المرتقبة، والمُزمع عقدها في 18 يونيو المُقبل، في ضوء التوقُّعات التي تشير إلى احتمالية فوز المرشح "إبراهيم رئيسي"، الذي يتبع التيار المتشدد المحافظ، خاصة وأن هذا الأمر من شأنه تقويض المحادثات برمتها.
هذا، وقد أشارت الوفود الدبلوماسية المشاركة في المحادثات أن المفاوضات أحرزت تقدمًا ملحوظًا، وتمّ بلورة أجزاء مهمة من الصفقة خلال الجولات الخمس الماضية، والتي توصلت إلى الخطوات التي يتعيَّن على كلٍّ من واشنطن وطهران اتخاذها، وأنه تمّ تحديد إطار وهيكل الاتفاق، وجارٍ التفاوض بشأن العديد من البنود، في ضوء وجود العديد من القضايا العالقة، وبعض التحديات التي يتعيَّن معالجتها ومواجهتها.
وفي ضوء ما سبق، يُناقش هذا العدد من إصدارة "بقلم خبير"، المسارات المحتملة للاتفاق النووي في ضوء تلك الجولات المتتالية لمفاوضات فيينا. لتقديم صورة متكاملة حول تداعيات كل مسار.
تكتسب المفاوضات التي تجرى حاليًا في فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" (بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين إلى جانب ألمانيا)، بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، أهمية خاصة لاعتبارات ثلاثة رئيسة، أولها: أنها المفاوضات الأولى التي تجرى حول الاتفاق النووي في عهد إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، الذي حرص على تبنِّي سياسة مختلفة إزاء الاتفاق النووي عن تلك التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب"، والتي ساهمت في رفع التصعيد مع إيران إلى مستوى غير مسبوق.
وثانيها: أنها تهدف إلى إعادة تفعيل الاتفاق النووي وإنقاذه من الانهيار، بعد الإجراءات التصعيدية المتبادلة التي اتخذتها كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس السابق "دونالد ترامب"، بعد أن انسحبت الأخيرة من الاتفاق، في 8 مايو 2018، وبدأت في فرض عقوبات على الثانية في 7 أغسطس من العام نفسه، على نحو دفع الأولى إلى تخفيض مستوى التزاماتها النووية، فيما يتعلق برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20% ثم إلى60%، واستخدام أجهزة طرد مركزي من طرازات أكثر تقدمًا على غرار "IR4" و"IR6"، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل منشأة فوردو، إلى جانب مفاعل ناتانز، الذي يمثل المحور الرئيس في النشاط النووي الإيراني.
وثالثها: أنها لا تنفصل عما يجري من تفاعلات على المستوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، في ظل الحضور الإيراني في معظم الأزمات الإقليمية، إن لم يكن مجملها، فضلًا عن اهتمام العديد من القوى الإقليمية، على غرار إسرائيل والسعودية، بما يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات في فيينا، وتأثيراتها المحتملة على الملفات الإقليمية المختلفة، وفي مقدمتها الصراع في سوريا، والأزمة الأمنية والسياسية في العراق ولبنان، والحرب في اليمن.
تغيير رئيس:
أجرت إدارة الرئيس "جو بايدن" تغييرًا بارزًا في السياسة الأمريكية إزاء إيران؛ إذ إنها كانت حريصة في البداية على الدعوة إلى إجراء مفاوضات شاملة مع إيران لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تمتد إلى الملفات الخلافية الأخرى، لا سيما برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإيراني في المنطقة، الذي تربطه بصفة دائمة بالاتهامات الموجهة لإيران بدعم التنظيمات الإرهابية، لكن إصرار الأخيرة على ضرورة "حصر" المفاوضات في البرنامج النووي، بالتوازي مع الاستمرار في تقديم الدعم لحلفائها في المنطقة، بل ورفع مستوى التصعيد في بعض الأزمات على غرار مواصلة الهجمات الصاروخية على القواعد والمصالح الأمريكية في العراق، والإيعاز لحركة الحوثيين من أجل رفض المبادرة السعودية للوصول إلى تسوية للأزمة اليمنية، ووضع عراقيل أمام تشكيل حكومة جديدة في لبنان لمواجهة الأزمتين الاقتصادية والسياسية، وأخيرًا تكثيف الدعم للفصائل الفلسطينية والإعلان عنه بشكل لافت، ولا سيما حركة حماس، خلال المواجهات العسكرية التي اندلعت مع إسرائيل في الفترة من 10 إلى 21 مايو 2021، وانتهت باتفاق وقف إطلاق النار الذي قامت مصر برعايته، كل ذلك فرض خيارين محدودين أمام إدارة "بايدن"؛ فإما أن تتمسك بسياستها القائمة على إجراء مفاوضات حول جميع الملفات الخلافية وبالتالي تعرقل، أو على الأقل، تؤجل تلك المفاوضات، أو أن تجري تعديلًا باتجاه البدء في مفاوضات حول البرنامج النووي، على أن يمهد ذلك في مرحلة لاحقة إلى إجراء مفاوضات حول الملفين الآخرين: برنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي، وإن كان ذلك لا يبدو مضمونًا، في ظل إصرار إيران على عدم إجراء مفاوضات جديدة، لأسباب عديدة، منها صعوبة إقدامها على تقديم تنازلات في تلك الملفات، التي تعتبر أنها توفر لها أوراق ضغط وربما أدوات للردع في مواجهة خصومها الإقليميين والدوليين، لا سيما إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وبدا لافتًا أن متغيرًا آخر مارس بدوره ضغوطًا من أجل استعجال الانخراط في مفاوضات جديدة، وهو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي سوف تجرى في 18 يونيو 2021؛ حيث تتزايد احتمالات نجاح تيار المحافظين الأصوليين، القريب من الحرس الثوري، في الفوز بالمنصب، ومن ثمّ تكريس سيطرته على مراكز صنع القرار الرئيسة في النظام الإيراني، بعد أن نجح في السيطرة على أغلبية مقاعد مجلس الشورى الإسلامي بعد الانتخابات التي أجريت في 21 فبراير 2020، وبعد أن أقرّ مجلس صيانة الدستور، في 24 مايو 2021، أهلية 7 مرشحين فقط للانتخابات الرئاسية منهم 5 من تيار المحافظين الأصوليين، في مقدمتهم رئيس السلطة القضائية "إبراهيم رئيسي"، مستبعدًا بعض المرشحين المعتدلين، مثل "علي لاريجاني" رئيس مجلس الشورى السابق، وهو ما تشير اتجاهات عديدة إلى أنه قد يساهم في تعقيد الأزمة حول الاتفاق النووي، ويدفع طهران إلى رفع مستوى التصعيد إلى مرحلة غير مسبوقة، ورفض الدعوات التي توجَّه لها بإجراء مفاوضات للوصول إلى تسوية لهذه الأزمة.
واللافت هنا، أن الضغط الذي فرضه اقتراب موعد الانتخابات لم يقتصر على القوى الدولية التي اعتبرت أن وصول رئيس أصولي إلى السلطة من الممكن أن يعرقل إبرام صفقة جديدة تنقذ الاتفاق النووي (•)، وإنما امتد إلى حكومة الرئيس "حسن روحاني"، التي تعبِّر عن تيار المعتدلين الذي يضم قوى من الإصلاحيين والمحافظين التقليديين، والتي ساهمت في إنجاز الاتفاق النووي الأول، في 14 يوليو 2015، ونجحت في تمريره في الداخل، ولا سيما لدى المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي".
وهنا، فإن حكومة "روحاني" تخشى من أن وصول رئيس أصولي إلى الرئاسة يمكن أن يعصف بالصفقة النووية التي أبرمتها، خاصة أن مُحفِّزات التصعيد قائمة وبقوة، ليس فقط بسبب العقوبات الأمريكية وإنما أيضًا بسبب العمليات الأمنية التي تتعرض لها إيران، واستهدفت المنشآت النووية والعلماء في الشهور الأخيرة، والتي توجِّه فيها اتهامات مباشرة إلى إسرائيل، وبالطبع، فإن ما يزيد من مخاوف الحكومة هو أن الرئيس "روحاني" نفسه لن يترشح في الانتخابات بعد أن تولَّى منصبه لفترتين رئيستين ولا يحق له في الترشح لفترة رئاسية ثالثة، فضلًا عن أن المرشحين القريبين من تيار المعتدلين، وهما "عبد الناصر همتي" محافظ البنك المركزي، و"محسن مهر علي زاده" النائب السابق لرئيس الجمهورية، لم تظهر حتى الآن مؤشرات حول قدرتهما على استقطاب توافق داخلي والمنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، وبالتالي استكمال البرنامج السياسي للرئيس "روحاني" الذي لم يستطع تنفيذه على مدى الأعوام الثمانية الأخيرة، على الساحتين الداخلية والخارجية.
خيارات محدودة:
ربما يمكن القول إنه أيًّا كان المسار الذي سوف تتجه إليه المفاوضات الحالية بين إيران ومجموعة "4+1"، التي وصلت إلى جولتها الخامسة (•) دون أن تنتهي باتفاق، فإن التصعيد سوف يبقى سمة رئيسة في المنطقة، على الأقل في المديين القريب والمتوسط، صحيح أن هناك اتجاهًا عامًا للتهدئة في الملفات الإقليمية المختلفة، بدأت تظهر ملامحه تدريجيًّا، على غرار محاولات تركيا تحسين العلاقات مع مصر، وإجراء محاثات بين السعودية وإيران، إلا أن ذلك لا ينفي أن الخلافات العالقة بين تلك القوى ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، بما يعني أن استمرار التصعيد ما زال احتمالًا لا يمكن استبعاده في إدارة التفاعلات بين تلك القوى خلال المرحلة القادمة، ويمكن تناول أهم التداعيات الإقليمية التي يمكن أن تتمخض عن نجاح أو فشل المفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي الإيراني على النحو التالي:
المسار الأول، نجاح المفاوضات: وهو ما يمكن أن يحدث في حالة الوصول إلى توافق بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الخلافات العالقة، لا سيما ما يتعلق بمستوى وطبيعة العقوبات التي سوف ترفعها الأخيرة، والقيود التي ستطبقها إيران على أنشطتها النووية، من أجل ضمان عودتها من جديد إلى تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق، على غرار ما حدث في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها.
وهنا، فإن هذا المسار سوف يحقق نتائج عديدة، يتمثل أولها: في تقليص حدة الضغوط الاقتصادية المفروضة على إيران، لا سيما عودتها إلى تصدير النفط إلى المشترين الدوليين، فضلًا عن السماح لها باسترداد أموالها المجمدة لدى بعض المصارف الدولية، وعودتها إلى النظام المالي العالمي، على نحو قد يساعد في استقطابها للاستثمارات الأجنبية مرة أخرى، ويتعلق ثانيها بعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي، بكل ما يعنيه ذلك من تعزيز فرص استمرار العمل به من جديد، بعد أن واجه شبح الانهيار في الأعوام الثلاثة الماضية، وهو ما يمكن أيضًا أن ينتج تداعيات إيجابية على العلاقات بين طهران وواشنطن التي وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر، بدت جليّة في المواجهة المباشرة التي اندلعت بين الطرفين في بداية يناير 2020، عندما قامت إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، في الثالث من يناير، بشن عملية عسكرية أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري "قاسم سليماني"، ونائب أمين عام ميليشيا الحشد الشعبي "أبو مهدي المهندس"، وهو ما ردّت عليه إيران بعد خمسة أيام بتوجيه ضربات صاروخية لقاعدتين عراقيتين تواجد بهما قوات أمريكية.
وينصرف ثالثها إلى فرض قيود على أنشطة إيران النووية، لا سيما ما يتعلق بتخفيض مستوى تخصيب اليورانيوم من 60% الآن إلى 3,67%، واستخدام أجهزة طرد مركزي من الطراز الأول "IR1" بدلًا من الأجهزة المتطورة التي تقوم باستخدامها حاليًا، مثل "IR4" و"IR6"، وحصر عمليات التخصيب في منشأة ناتانز فقط.
لكن هذه التداعيات لن تقلص، في الغالب، من مستوى التصعيد على مستوى الإقليم، وذلك لاعتبارين رئيسين هما:
1-مواقف القوى الإقليمية: لن تحظى الصفقة المحتملة، على الأرجح، بقبول من جانب القوى الإقليمية المعنية بتداعيات الاتفاق النووي، التي تبدي من البداية تحفظات عديدة على الاتفاق النووي، وما يمكن أن ينتج عن المفاوضات الحالية من معطيات، وترى تلك القوى أن الصفقة النووية لن تحل المشكلة مع إيران، أو بمعنى أدق لن تساهم في تسوية الخلافات مع الأخيرة، والتي لا تنحصر في البرنامج النووي رغم أهميته، وإنما تمتد إلى برنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي المرتبط بالدعم الذي تقدمه إيران لحلفائها الإقليميين في دول الأزمات، لا سيما سوريا والعراق ولبنان واليمن.
وهنا، فإن بعض تلك القوى، لا سيما إسرائيل، قد تتحرك للتعامل مع تلك التهديدات منفردة، بما يساهم، وفقًا لرؤيتها، في احتواء تداعياتها على أمنها ومصالحها، وقد كان لافتًا أن إسرائيل بدأت بالفعل في تبنِّي هذه السياسة منذ منتصف عام 2020، عندما أدركت أن سياسة "الضغوط القصوى" التي تبنّتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" لم تنجح في كبح الأنشطة النووية الإيرانية، بل أتت في النهاية بنتائج عكسية، بدت جليّة في اتجاه إيران إلى رفع مستوى التخصيب إلى 20% ثم إلى 60%، بشكل أدى إلى اقترابها بدرجة كبيرة من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
وفي هذا السياق، اتُهِمت إسرائيل، من جانب إيران، بالمسؤولية عن العمليات الأمنية والاستخباراتية التي وقعت داخل أراضيها، على غرار سرقة الأرشيف النووي الإيراني الذي سمح بالحصول على معلومات سرية وحساسة عن الأنشطة النووية الإيرانية في 31 يناير 2018، ثم تعرُّض مجمع "همت" في منطقة خجير لهجوم في 26 يونيو 2020؛ حيث كشفت تقارير عديدة أن المجمع مرتبط بإنتاج الوقود الصلب والسائل في الصواريخ الباليستية، أو أنه يتضمن أنفاقًا تستخدم كمخزن للصواريخ الباليستية، فضلًا عن تعرُّض منشأة ناتانز لهجومين في 2 يوليو 2020 و12 أبريل 2021، إلى جانب اغتيال رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الإيراني العالم النووي "محسن فخري زاده"، في 27 نوفمبر 2020، وتوازى ذلك كله مع استهداف بعض الناقلات الإيرانية التابعة للحرس الثوري في المياه الإقليمية بالقرب من سوريا، وإريتريا.
وقد ردت إيران على ذلك، باستهداف ناقلات إسرائيلية في مياه الخليج العربي وبحر العرب، فضلًا عن أنها اتهمت بالمسؤولية عن إطلاق الصاروخ الذي وقع بالقرب من مفاعل ديمونا في 22 أبريل 2021، كما أنها وجّهت إشارات بأنها لم تكن بعيدة عن التصعيد الذي حدث على الأراضي الفلسطينية في الفترة الأخيرة؛ إذ كان لافتًا حرص القادة الإيرانيين وقادة حماس على تأكيد أن الدعم الإيراني كان له دور في التطورات الميدانية الأخيرة التي شهدتها إسرائيل والأراضي الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بالتحول الملحوظ في القدرات الصاروخية لحركة حماس.
وقد بذلت إسرائيل جهودًا حثيثة من أجل إقناع الإدارة الأمريكية بإبداء مواقف أكثر تشددًا مع إيران خلال المفاوضات التي تجرى في فيينا، وتوسيع نطاق المفاوضات لتشمل برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، إلا أن الأخيرة ما زالت حريصة، على ما يبدو، على حصر المفاوضات الحالية في البرنامج النووي، مع الاستعداد لإجراء مفاوضات في المستقبل حول البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي، وإن كانت هناك شكوك في أن إيران سوف تقبل بذلك.
ومن دون شك، فإن إسرائيل، وغيرها، سوف تعتبر أن السماح لإيران بإعادة تصدير النفط إلى الأسواق الدولية والحصول على الأموال المجمدة في الخارج، سوف يدفعها إلى رفع مستوى الدعم المقدَّم إلى الحلفاء الإقليميين، لا سيما نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، وحزب الله اللبناني، وأنصار الله اليمنية، والميلشيات الشيعية في العراق.
2-ضغوط المتشددين: ربما يتجه المتشددون داخل إيران، من قادة وكوادر تيار المحافظين الأصوليين، فضلًا عن الحرس الثوري، إلى توجيه رسائل تفيد أن الصفقة النووية لن تفرض نتائج مباشرة على الملفات الأخرى، لا سيما برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، وهنا، يُتوقَّع أن تتجه إيران إلى إجراء مزيد من التجارب الخاصة بإطلاق الصواريخ الباليستية خلال المرحلة القادمة، مستفيدة في هذا السياق من الصياغة الفضفاضة التي يتضمنها الاتفاق النووي الحالي فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية، حيث يدعوها إلى عدم إجراء أنشطة خاصة بتطوير الصواريخ القادرة على حمل أسلحة نووية، وهو ما ترد عليه إيران بأن الصواريخ التي تمتلكها ليست مخصصة لحمل أسلحة نووية، بما يعني، في رؤيتها، أنها لا تخضع لمثل هذا القيد الوارد في الاتفاق والقرار الأممي رقم 2231. ولا يوجد ما يؤشر حتى الآن إلى أن الأطراف المشاركة في المفاوضات الحالية في فيينا سوف تناقش إمكانية تعديل هذا البند، أو أن إيران سوف تقبل بتعديله بشكل قد يتضمن قيودًا محددة وواضحة عليها في هذا السياق.
كما أن إيران قد تمعن في دفع حلفائها إلى التصعيد في مناطقهم، وربما استهداف مصالح أمريكية أو إسرائيلية، لإثبات أن الصفقة النووية لن تدفعها إلى التراجع عن سياستها الحالية إزاء الملفات الإقليمية المختلفة.
وربما يكون إصرار النظام الإيراني على تعزيز فرص أحد المرشحين المتشددين من تيار المحافظين الأصوليين على الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، لا سيما بعد أن رفض مجلس صيانة الدستور أهلية عدد كبير من مرشحي تيار المعتدلين، إشارة من جانبه بأنه لن يتوانى عن اتخاذ خطوات متشددة في هذه الملفات تحديدًا، لا سيما ما يتعلق بتحقيق مزيد من التطور في البرنامج الصاروخي، وتقديم مزيد من الدعم للحلفاء والوكلاء الإقليميين.
المسار الثاني، فشل الصفقة: وهو مسار لا يمكن استبعاده حتى الآن، رغم أن كل تصريحات المسؤولين المشاركين في مفاوضات فيينا تشير إلى أن الوصول إلى صفقة يعتبر "مسألة وقت" نتيجة التعقيدات الفنية العالقة حول مستوى العقوبات التي سوف ترفع مستوى التزامات إيران في الاتفاق النووي، وربما يمكن القول إن انعقاد خمس جولات من المفاوضات حتى الآن دون الوصول إلى نتيجة يوحي بأن الخلافات لا تبدو ثانوية، ولا يمكن تسويتها بسهولة.
ومن دون شك، فإن ثمة أسبابًا عديدة يمكن أن تعزز من تحقق هذا المسار إذا ما زالت الضغوط التي تمارسها الأطراف المناوئة للاتفاق النووي مستمرة، وهي الضغوط التي لا تقتصر على إسرائيل فحسب بل تمتد أيضًا إلى قسم كبير من نواب الحزب الجمهوري، وبعض نواب الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يستندون إلى أنه لا يمكن الوثوق في مدى انخراط إيران في التزامات دولية صارمة، وأن إصرار الأخيرة على المضى قدمًا في تطوير برنامجها الصاروخي، ودعم حلفائها في الإقليم من شأنه تقويض دعائم أى اتفاق معها، واستند هؤلاء إلى الدعم الإيراني الواضح للفصائل الفلسطينية في الحرب الأخيرة مع إسرائيل لإضفاء وجاهة خاصة على رؤيتهم القائمة على أن السماح لإيران بالحصول على مزيد من عائدات الصادرات النفطية معناه رفع مستوى الدعم الذي تقدمه لخصوم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا السياق، يمارس نواب جمهوريون وديمقراطيون، بالتوازي مع استئناف الجولة الخامسة من مفاوضات فيينا، في 25 مايو 2021، ضغوطًا على إدارة الرئيس "بايدن" من أجل طرح أى اتفاق مع إيران في شكل معاهدة رسمية؛ لكي يتم التصويت عليها من جانب مجلس الشيوخ، وهو ما سيسمح للجمهوريين في النهاية برفض الاتفاق، في ظل أغلبيتهم في المجلس.
فضلًا عن ذلك، ما زالت إيران تمارس بدورها ضغوطًا من أجل توسيع نطاق العقوبات التي يمكن أن ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية عليها، وقد حاولت في البداية تبنِّي دعوة رفع كامل العقوبات، وهو ما قوبل برفض من جانب الأخيرة، التي اعتبرت أن ذلك غير واقعي لسببين، أولهما: أن هناك عقوبات لا ترتبط مباشرة بالبرنامج النووي، على غرار العقوبات الخاصة بدعم الإرهاب، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وقد أمعنت إدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب"، قبل رحيلها، في تعزيز هذه العقوبات؛ من أجل تقييد قدرة إدارة "بايدن" على التحرك من أجل الوصول إلى صفقة جديدة مع إيران. وثانيهما: أن رفع كامل العقوبات ينزع من الإدارة الأمريكية ورقة ضغط تستطيع التلويح بها في مواجهة إيران، أولًا: لدفعها إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي، وثانيًا: للضغط عليها من أجل الانخراط في مفاوضات جديدة، بعد الصفقة النووية، تتضمن برنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي.
وهنا، فإن فشل الاتفاق يمكن أن يفرض معطيات عديدة قد تؤثر بالسلب على حالة الاستقرار في الشرق الأوسط، وتزيد من احتمالات الانخراط في مواجهات جديدة غير مباشرة بين الأطراف المعنية، وهو ما يعود إلى اعتبارين رئيسين هما:
1-إمعان إيران في تطوير برنامجها النووي: على نحو سيؤدي إلى تحقيق أكبر قدر من التقدم في هذا البرنامج، بالتوازي مع تقييد التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تنفيذًا للقانون الذي أصدره مجلس الشورى (البرلمان)، في أول ديسمبر 2020، ويقضي بتقليص هذا التعاون ما لم تُرفَع العقوبات الأمريكية، وقد بدأت إيران بالفعل في 21 فبراير 2021 في تعليق العمل بالبروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الأسلحة النووية، لكنها توصلت إلى اتفاق مع الوكالة يتيح استمرار المراقبة لمدة ثلاثة أشهر، وقد تم تمديد هذا الاتفاق، بعد انتهاء هذه المهلة، في 25 مايو 2021 لمدة شهر إضافي، لكن في حالة فشل المفاوضات، لا يُتوقَّع أن تتجه إيران إلى تمديد الاتفاق، بل ستمعن في مواصلة أنشطتها النووية بعيدًا عن رقابة الوكالة، خاصة فيما يتعلق بإنتاج 120 كيلو جرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% سنويًّا، وربما الاستمرار في تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%.
فضلًا عن ذلك، سوف تتواصل الهجمات الصاروخية التي تتعرض لها المصالح الأمريكية في دول الأزمات، لا سيما في العراق، من خلال وكلاء إيران من الميليشيات المسلحة التي تتحجج في هذا السياق بالضغط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إتمام الانسحاب العسكري من العراق، بمقتضى القانون الذي أصدره البرلمان العراقي في 5 يناير 2020، في أعقاب قيام إدارة الرئيس "ترامب" بشن عملية عسكرية أسفرت عن مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري "قاسم سليماني" برفقة نائب أمين عام ميليشيا الحشد الشعبي "أبو مهدي المهندس" قبل ذلك بيومين.
كما ستواصل إيران تطوير برنامج الصواريخ، والذي سوف تتزايد أهميته في هذه اللحظة باعتبار أنه يمثل، وفقًا للرؤية الإيرانية، آلية الردع الرئيسة، التي يمكن من خلالها رفع كلفة أي عمل عسكري تتعرض له من جانب الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل.
2-حرص الإدارة الأمريكية على توسيع نطاق العقوبات المفروضة على إيران: خاصة فيما يتعلق بفرض مزيد من القيود التي يمكن من خلالها سد "الثغرات" التي تحاول إيران استغلالها للالتفاف على تلك العقوبات، وربما إعادة التفكير في الخيار العسكري، سواء بصفة منفردة أو بالمشاركة مع إسرائيل، باعتبار أن فشل المفاوضات سوف يأتي بنتائج عكسية، وسيدفع إيران بشكل أكبر إلى تحقيق تقدم واسع في أنشطتها النووية، بما يساهم في اقترابها من المرحلة التي لا يمكن أن تسمح بها واشنطن وتل أبيب، أو بمعنى أدق، اختصار الفترة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها إيران في حالة ما إذا اتخذت قرارًا سياسيًّا بالعمل على امتلاك أسلحة نووية.
خاتمة:
يمكن القول في النهاية إن مرحلة التهدئة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حاليًّا قد لا تستمر طويلًا، بل إنها ربما تكون تمهيدًا لجولة جديدة من التصعيد، لا سيما في ظل الترابط الواضح بين مجمل الملفات الإقليمية، وقد كشفت الحرب الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، والتي أطلقت عليها اتجاهات عديدة مصطلح "الحرب الرابعة"، مدى ترابط وتعقد الملفات الإقليمية، وتشابك مصالح القوى المعنية بها، فالأزمات الإقليمية باتت أشبه بـ "الأواني المستطرقة"؛ حيث إن الارتدادات التي تنتج عن أى أزمة إقليمية سرعان ما تصل إلى الأزمات الأخرى.